كاتب أو صحافي سوريّ يصل للتو إلى باريس أو لندن، لا تزال شهادته "من الداخل" السوري" طازجة، يظهر كنيزك في سماء الدم على بي بي سي أو فرانس 24. ثم يتعقبه الشعور بالخيبة، بالاستغلال، بغضب العاجز، ويتذكر لاجئين آخرين، "كونيين": رياض سطوف يكتب ويرسم "عربي المستقبل" ولكنه لا يخالط العرب بتاتاً؛ لا ينزل أدونيس من عليائه ليعطف على اللاجئين بكلمة واحدة من الرحمة وأخواتها، فالحياة في أوروبا تحق لمثقف مثله، ولا تطالها يد العامل أو العاطل عن العمل...
كثيراً ما نسخر من أنفسنا وتثاقفنا، قبل السخرية المحتملة والمقلقة للآخرين، وقد لا يكون هذا الكلام هنا، في هذه الكلمات، إلا تضخيماً لفظياً. هل يهيننا تعاطف "الآخرين" معنا، هل يهزّ مشاعرنا حقاً، أم سنشكّك بدوافع المتعاطفين وأصالة إيثارهم، فنرتاب بمَن يعطفون علينا مهما كانت رهافتهم، ويستفزّنا المشفقون، ويحزننا المتضامنون "الطيبون" لأنهم مستضعفون مثلنا؛ ألأن أعيننا لا تزال خلسة مصوَّبة على الذين لا يفكرون بنا، ولا يعرفون عنا شيئاً ولم يسمعوا بأسمائنا، أولئك الذين يكرهوننا ولا نلتقي بهم أبداً -هذا إذا التقيناهم- إلا في مناسبات مهينة خاطفة، في مقهى مثلاً أو باص؟ ألأننا كنا نتطلع إلى العدسات لنشر رسائل نتكلم فيها باسم الناس الذين لا نعرف أسماءهم، ونتطلع إلى الأضواء التي يحتكرها أوغادٌ هم الأقوى والأغنى ونكاد نجهل عنهم كل شيء، ونقول إن هؤلاء المهيمنين الغامضين، الساسة والأثرياء الفاحشين، سفلة وحقراء ولا يعطون لأمثالنا من الأضواء إلا الدوائر التي تطوق كحلقات اليزيديين مهرّجين يبكون وهم يروون حياتهم، ولا يمنّون علينا إلا بالفتات المشروط بالتنازلات والرضى بواقع الحال؟
الأمثلة استفحلت. اليأس أو البؤس الذي قد يراه البعض في أي تجمع ثقافي أو شعري عادي، لم ينعم عليه بهيبة المكان أو سطوة الأسماء، يتحول إلى نكتة ومادة فاترة للتندر (مستشهدين كالمعتاد بركاكة النماذج وضحالتها)، واتهام مسبق بأن هذا الكاتب أو الكاتبة "لا محل له من الإعراب" في ثقافته ولغته، إذ ليس إلا بالوناً إعلامياً نفخته إلى المنصات الأنفاسُ الأخيرة للغرقى والأموات، ليس إلا مخادعاً يجيد العلاقات العامة والاتجار بآلام الآخرين الذين يسميهم أهله وإخوته. لهشاشتنا المفرطة وانعدام حيلتنا وعذاباتنا وخجلنا الكبير من أنفسنا وأحزاننا التي ما عدنا نحصي أسبابها، قد نستقوي بأسماء كالدروع نحتمي بهيبتها أو مكانتها، فيربّت داريو فو بيده الكبيرة على أكتافنا أو يرسل دي نيرو رسالة تضامن إلى سينمائي سجين، أو نلوذ كمراهقين ضائعين بسوريين "كبار" مكرَّسين، مثقفين سوريين "لامعين" يُحتمى بهم في الشدائد ويُلاذ بصيتهم ونزاهتهم، أو ما نظنه نفوذهم ومنزلتهم التي نفتخر بمحاذاتها؛ أو بالأحرى نخفي افتخارنا، البائس الحزين، بمجالستهم والاشتراك معهم في ندوة أو جلسة سهر وذكريات، ونتكتّم على ما نقوم به ولا نجاهر بالمناسبات لأن الخزي أكبر من الخجل، وكلّ احتفاء ليس إلا تأبيناً.
أليست هذه الصورة الإعلامية للضحايا هي صورتنا منذ البداية، إذ أي سبب قوي آخر وراء الاهتمام بنا إلا مصائبنا؟ الغرابة أن نسمع بالإساءة إلى الفنّ أو الشعر (الإساءة، رحماك يا رب العار!) هناك بالأحرى الخوف من ظهور المرء انتهازياً أو متطفلاً أو متشدّقاً، فيلجأ إلى الصمت أو يتوارى، وإن كان هذا الصمت ترفعاً غريباً أو انزواء مؤلماً، أو تصرُّفاً مُلاماً وغير مفهوم أحياناً. الترفع عن تحويل المأساة إلى إطار نُسجَن فيه كصور أمواتنا، ويذكّرنا قبل غيرنا بما كنا نسخر منه فيما مضى: الشعر الملتزم وشعراء القضايا الكبرى، أياً كانت القضية في هذا العالم المليء بالقضايا العادلة. لكننا نفترض في تسمية اللاجئين سياقاً تحقيرياً أو مستفزاً، يختزل وينمّط، وقد ننسى هنا المتفهّمين والمتعاطفين، الحقيقيين والكثر، فيدفعنا الإحساس المباشر بالدونية إلى غضب واستنكار فوريين ضد هذا التوصيف، ونجد أنفسنا مرة أخرى أمام بشاعة الوقوع في الرطانة والكلام الجامد، وتعود إلى التداول تعابيرُ تخلو سذاجتها من أية براءة، كالربط بين الشعر والحب أو المرأة والسلام أو النضال والوطن والسجون، وكأن هذه الأنماط المسيَّسة من الكتابة حكر على شعوب وأعراق معينة، ولا يخفى البعد التمييزي أو حتى العنصري في مثل هذه الأفكار التي تروَّج ونحن نصطدم بها كل يوم، على الأقل في تصوّراتنا، وهي تؤازر ما لا يتوانى الإعلام عن بثِّه ليل نهار. ربما جزء من الغضب أو الخيبة عند توصيف الفنان أو الشاعر باللاجئ، كأنه نوع أو عرق جديد، محتقر أو أدنى بالضرورة، ربما مردُّه إلى الزج بنا في مكان نحسبه لا يليق بنا، ولا يناسب ما نتوهّمه حول أنفسنا (حتى لو كنا محقّين أحياناً في ظنوننا)، فنعتبر هذا الزج انتقاصاً إضافياً يطمرنا في قاع الإهانات التي مُرِّغنا فيها، ودلواً إضافياً ينسكب على برميل الدونية الهائل الذي نحشَر فيه، ويفيض بالسفسطات والحقائق والرعب وفضلات المشاعر والأفكار.